على مرِّ التَّاريخ، سلك العديد من القدِّيسين دربَ الزُّهد والتَّضحية، مجسِّدين محبةً خالصةً للمسيح تتجاوزُ مقاييس العالم. ومن بينهم، برزَ من اختاروا نهجًا فريدًا يُعرف بـ«التَّبالُه من أجل المسيح»، حيث بدَتْ تصرُّفاتهم في ظاهرها غريبةً أو غير عقلانيةٍ، لكنَّها كانتْ تُخفي وراءَها حكمةً إلهيَّةً ونسكًا روحيًّا عميقًا. يُعدُّ القدِّيس سمعان المتبالِه من أبرز هؤلاء القدِّيسين، إذ اِختار أنْ يتخلَّى عن مظاهر الاِحترام الاجتماعيِّ، مُتظاهرًا بالجنون في أعيُن الناس، بينما كان في الحقيقة مغمورًا بفيضٍ من النِّعمة الإلهيَّة. لم يكن تَجواله في أسواق وشوارع مدينة حمص مجرَّد تصرُّفٍ عشوائيٍّ، بل كان يحمل رسالةً روحيَّةً عميقة تدعو إلى التَّواضع وكسر الكبرياء البشري، وإيقاظ النُّفوس المنشغلة بزخارف الدُّنيا، والغارقة في خطاياها المُهلكة. لقد تجلَّى من خلال حياته مثالٌ فريدٌ للقداسة المخفيَّة خلف ستار البساطة والتجرُّد، ليكشف عن جوهر الإيمان الحقيقيِّ الذي يسمو فوق مظاهر العالَم الزَّائل.

بفرحٍ وابتهاجٍ روحيَّين، نستقبلُ هذا الإصدارَ الجديدَ الصادر عن ديرِنا المقدّس، إذ يأتي ترجمةً إلى اللغة العربيّة لنصوصٍ تتناول سيرةَ أحد أعظم رؤساء الكهنة الذين عرفَتهم الكنيسة، القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، رئيس أساقفة القسطنطينيّة. ذلك القدّيس حظيَ بمحبّةٍ جليلة من قلوب المؤمنين في حياتِه، وما زالَ محطَّ محبّةٍ وتكريم إلى يومنا هذا، على الرغم من مرور ما يقارب ستّة عشر قرنًا على انتقاله من هذه الحياة.في الحقيقة، يغمرنا فرحٌ روحيّ عميق ونرفع أكفَّ الامتنان من أعماق قلوبنا للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، منير المسكونة العظيم، ذاك الذي يحتفظ دير فاتوبيذي بجمجمتِه المكرّمة كجوهرة لا تقدَّر بثمن. وبإيمانٍ راسخٍ نُوقِن أنّ هذا العمل قد أُنجز بشفاعاته المباركة ورضاه الإلهيّ. فكما قدَّمَ نفسَه ذبيحة محبّة، حتّى الموت، من أجل الله ومن أجل أصاغره من الإخوة، كذلك نؤمن أنّ صلواتِه المستجابةَ قد ساندَت محاولتَنا المتواضعة هذه التي تهدف إلى تقوية نفوس إخوتنا الأرثوذكسيّين الناطقين بالعربيّة، في ظلّ ما يكابدونه من محنٍ قاسية في هذه السنوات العصيبة، حتّى أُنجز هذا العمل بتعاضد شفاعاته المباركة ونعمة الله.
الأرشمندريت أفرام الفاتوبيذيّ